طرابلس مدينة السلام والعيش المشترك/ وداد عساف/ سامريات نيوز

مُذَكّرات_مُدِيرَة 29

طَرَابلُس عَاصِمَة الشَمَال، مَدِينَة السَلاَم و التَعَايُش

تَعَدّدَت الأسْمَاء، و المَدِينَة وَاحِدَة: مِن “الفَيْحَاء”، إلَى “العَاصِمَة الثَانِيَة لِلُبْنَان”، إلَى “مَدِينَة العِلْمِ و العُلَمَاء”، و أخِيرًا “مَدِينَة السَلَامِ و التَقْوَى”.
إنَّهَا طَرَابْلُس الدُرَّة المُشْرِقَة الّتِي تَحْتَضِن أبْنَاءَهَا مِن جَمِيعِ الطَوَائِف و جَمِيع المَذاهِب و جَمِيع الإنْتِمَاءَات، حَيثُ تَتَجَاوَر المَسَاجِد و الكَنَائِس، و تَعْلُو المَآذِن مَع الأجْرَاس، مَا يَجْعَل مِن طَرَابلُس مَدِينَة لِلأِلْفَةِ و الوِئَامِ و العَيْشِ المُشْتَرَك، مِنَ الطِرَازِ الأوَّل.
شَوَارِعُهَا خَيْرُ دَلِيلٍ عَلَى أجْوَاءِ المَحَبَّة و التَلاَقِي الّتِي عَمّت المَدِينَة عَلَى مَرّ العُصُور، و الإخْتِلاَط و التَمَازُج بَيْنَ أبْنَائِهَا، بِمُخْتَلَفِ أدْيَانِهِم و مَذَاهِبِهِم: ( شَارِع “مَار مَارُون”، و شَارِع “المطران”، و شَارِع “الكَنَائِس”، و شَارِع “الرَاهِبَات”) …
و تَشْهَد كَنَائِسُ طَرَابْلُس ( لِلرُومِ الأُرْثُوذُكْس، لِلمَوَارِنَة، لِلسِرْيان الكَاثُولِيك ) عَلَى تَارِيخٍ طَوِيلٍ مِن العَيْشِ المُشْتَرَك و الإعْتِرَافِ بِالآخَر، بَيْنَ أبْنَاءِ المَدِينَة. فَرَغْمَ الأحْدَاثِ الألِيمَة التِي شَهِدَتْهَا طَرَابْلُس و مُحِيطُهَا فِي فَتْرَةِ الحَرْبِ الأهْلِيّةِ التِي عَاشَهَا لُبْنَان، حَافَظَ مُسْلِمُو طَرَابْلُس عَلَى الكَنَائِسِ فِي مُخْتَلَفِ أحْيَاءِ المَدِينَة، و تَصَدّوا لِأَيّ مُحَاوَلَةِ إعْتِدَاءٍ عَلَيْهَا. و مَا زَالَت مَدِينَة طَرَابْلُس إلَى اليَوْمِ تَتَمَيّز بِالعَلَاقَاتِ الوِدّيَةِ بَيْنَ أبْنَائِهَا، مِنْ جَمِيعِ الطَوَائِف.

فِي بِدَايَةِ عَهْدِي بِالتَعْلِيم، و أنَا شَابّة بِالعِشْرِين، تَعَيّنْتُ مُعَلّمَة فِي مَدْرَسَةٍ رَسْمِيّة مُدِيرَتهَا السَيّدَة القَدِيرَة إيفُون غَازِي (مِنْ أشْهَرِ المُدِيرَات و أكْثَرَهُنّ كَفاءَة و مَقدِرَة، و قَد اشْتَهَرَت المَدْرَسَة بِإسْمِ المُدِيرَة أكثَر مِن اسْمِها كَمَدْرَسَة الزاهِرِيّة الرَسْمِيّة) .
كَانَ هَذَا الصَرْحُ التَرْبَوِي رَمْزاً للتَعَايُشِ الإسْلاَمِي المَسِيحِي حَيْثُ انّ عَدَد الأسَاتِذَة كَانَ تَقرِيبًا مُنَاصَفَة بَيْنَ مُسْلِمِين و مَسِيحِييّن، كَذَلِكَ عَدَد الطَالِبَات.
كَانَتِ المُدِيرَةُ السَيّدَة إيِفُون مُدْرِكَةً لِلمَزِيجِ الدِينِيّ الذِي تَتَوَلَى الإشْرَافَ عَلَيْه.
لِذَلِك، و بِمَا أنّهُ كَانَت تُوضَع عَلامَةٌ لِلدِينِ عَلَى دَفْتَرِ العَلامَات فِي المَدَارِسِ الرَسْمِيّة، فَقَد لَجَأت المُدِيرَةُ إلَى إحْضَارِ خُورِي لِلمَوَارِنَة و آخَر لِلروم مِن أجْلِ حِصَصِ الدِينِ ( بِالإضَافَة لِحِصَصِ الدِين الإسْلامِي) بِهَدَفِ انْ يَنَال كُلّ التَلَامِيذ عَلَامَاتَ الدِينِ بِالتَسَاوي، كُلّ حَسَب إِيمَانِه. و بِهَذَا أثْبَتَت حِنْكَة و نَبَاهَة فِي تَسِييرِ أمُور المَدْرَسَة بِمَا يُنْصِفُ الجَمِيع .

و كَانَ التَعَاوُنُ بَيْنَ الإِدَارَة و الهَيْئَةِ التَعْليمِيّة يَتِمُّ بِكُلّ إخْلاَصٍ و تَفَانِي و تَعَاضُد.
كُنّا نَحْنُ المُعَلّمَات نَتَسَاعَد كَأَخَوَاتٍ لِتَأْدِيَةِ رِسَالَتَنا التَرْبَوِيّة عَلَى أكْمَلِ وَجْهٍ لِمَا فِيهِ مَصْلَحَة الطُلّاب. إذْ أنّنَا كُنّا نُغَطّي غِيَابَ بَعْضِنَا البَعْض فِي فَتْرَةِ الأعْيَادِ الدِينِيّة. فَفِي الأَعْيَادِ المَسِيحِيّةِ كُنّا نَحْنُ المُعَلّمَات المُسْلِمَات نَقُومُ بِالتَدْرِيسِ بَدَلاً عَنْ زَمِيلَاتِنَا ، و العَكْسُ بالعَكْس.

كُنّا و مَا زِلْنَا، جَمِيعَ أبْنَاءِ طَرَابلُسْ مِنْ كُلّ الدِيَانَات و الطَوَائِف نَحْيَا فِي أجْوَاءٍ مِنَ العَيْشِ الوَاحِدِ والأخُوّة ، و الكُلُّ حَرِيص عَلَى جَارِهِ حِرْصِهِ عَلَى نَفْسِه.
فَمِنَ النَاحِيَةِ الإجْتِمَاعِيّة يَقْطُنُ المُسْلِمُون والمَسِيحِيّون فِي الحَيّ الوَاحِد، و يُمَارِسُ كُلّ مِنْهَم شَعائِرَهُ الدِينِيّة بِحُرِيّة تَامّة، و يَتَشَارَكُون بِمُخْتَلَفِ طَوَائِفِهِم مَعْ بَعْضِهِمْ البَعْض الإحْتِفَالَ بِالأعْيَادِ الدِينِيّةِ و يَتَبَادَلُون المُعَايَدَات و التَهْنِئَةَ بِكُلِّ المُنَاسَبَات.
و مِنَ النَاحِيَةِ الإقْتِصَادِيّة، فِإِنّ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ المُوَاطِنِين، مِنْ مُخْتَلَفِ المَنَاطِق و الطَوَائِف، يَقْصِدُون أسْوَاقَ طَرَابْلُس بِشَكْلٍ يَوْمِيّ، لِلتَبَضّعِ و التَزَوّدِ بِحَاجِيّاتِهِم.
طَرَابْلُس الحَقِيقِيّة هِيَ جَو الإلْفَةِ و المَحَبّةِ و المَوَدّةِ و الإحْتِرَامِ الّذِي يَجْمَعُ أهْلَهَا مَعَ بَعْضِهِم البَعْض. لِذَلِكَ تَجِدُ أنّ فِي البِنَايَةِ الوَاحِدَةِ يَقْطُنُ المُسْلِمُ و المَسِيحِيّ و يَعِيشُونَ جِيرَانًا فِي السَرّاءِ و الضَرّاء، و كُلّ مِنْهُم يُمَارِسُ دِينَهُ و مُعْتَقَدَه، المَسَاجِد مَوْجُودَة و الكَنَائِس مَوْجُودَة، و لِكُلٍّ مِنَ المُسْلِمِين و المَسِيحِيّين حُقُوق يُمَارِسُونَهَا. أمّا الحَيَاة الإجْتِمَاعِيّة فَمَفْتُوحَة بَيْنَ الجَمِيع.
طَرَابْلُس تَحْتَضِنُ جَمِيعَ الطَوَائِف و المَذَاهِب، هِيَ مَدِينَة التَمَازُج و التَلَاقِي، إنّهَا مَدِينَة الإعْتِدَال و الإعْتِرَاف بِالآخَر، و هِيَ تُشَكّلُ نَمُوذَجًا نَادِرًا لِلتَعَايُشِ بَيْنَ أطْيَافِ المُجْتَمَع و شَرَائِحِهِ كَافّة.
أَهْلُ طَرَابْلُس الاصْيلِين، رَغْمَ تَنَوّعِهِم الطَائِفِي و المَذْهَبِي، إلاّ أنّهُم يٌشَكّلُونَ نَسِيجًا مُتَجَانِسًا مِنَ المُثَقّفِين و المُتَعَلّمِين، فَهِيَ مَدِينَة العِلْم و العُلَمَاء. و وَصَفَ أهْلَ طَرَابْلُس بِالتَدَيُّنِ هُوَ صِفَة رَاقِيَة تَنُمّ عَن نَقَاءٍ و صِدْقٍ و تَوَاضُع، لِيُضَاف إلَى ذَلِكَ انّ لَدَيْهِم إنْفِتَاحًا و إحْتِرَامًا لِعَقَائِدِ الآخَر.
و هَذَا يَعُودُ لِأُصُولٍ دِينِيّةٍ عِنْدَ أهْلِ الفَيْحَاءِ لَهَا عَلاقَة بِفِطْرَةِ الطَرَابُلْسِيّين و تَرْبِيَتِهِم.
فَاللّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَى قَالَ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ عَنْ الإخْوَةِ المَسِيحِيّين :
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى)،
و بِمُنَاسَبَةِ أعْيَادِنَا القَرِيبَة، عِيدِ الفِصْحِ المَجِيد و عِيدِ الفِطْرِ السَعِيد، أسْأَلُ اللّه، لَيْسَ فَقَطٔ لِمَدِينَةِ طَرَابْلُس و لَكِنْ لِكُلِّ لُبْنَانِ و اللُبْنَانِيّين، اَنْ يَنْعَمُوا بِالسَلاَمِ و الأمْنِ و الوِئَام، و انْ تَكُونَ السَنَوَات المُقْبِلَة مَلِيئَة بِالخَيْرِ و البَرَكَةِ و الِإسْتِقْرَار.

القِصّة و المَوْقِف: #وداد_عساف

مدِيرَة تَحْرِير سَامِرِيّات

أضف تعليق