مذكرات مديرة / المديرة وداد عساف

مُذكَّرات_مديرة 3

التِّلميذة_السِّريّة

عندما كُنّا في أَوَائلِ المرحلةِ التَّكميلية -في الصّفِ السَّادسِ آنذاك- كان يَتِمُّ اختيارُ تلميذةٍ بشكلٍّ سِريّ، فيها من مِثاليّة الصِّفات وحبِّ الخيرِ وسرعة الانتباه، وشيءٍ من المَوضُوعيّة لِتَكتُبَ الملاحظات عن بناتِ الصَّفِ ثمَّ تعطيها للمعلمة التي أَوْكَلَتْ لها المهمّة بهدفِ الإصلاح والإشرافِ في آنٍ مَعاً…

لا أدري لماذا كان هذا الدَّور يَرُوقني؛ ربّما بسبب طبيعتي التي تَنحُو للمثاليّة وتجعلُني أريدُ أن يكونَ كُلّ شيءٍ على أكملِ وجهٍ، وربّما لانّني دوماً أَتَمنى أنْ يكونَ لي دورٌ في الإصلاح والتَّوجيه…

فما كانَ منّي إلّا أَنْ “تَقَمَّصتُ” دورَ تلكَ التّلميذة السِّريّة وصرتُ أُسَجِّلُ الملاحظات عن كلِّ الحركات والسَّكنات التي تحصلُ في قاعةِ الصَّفِ…

لم يخطرْ ببالِي أنَّ الفتاة التي بجانبي كانت تراقبُني، فقد كانت هي التي تقومُ بدورِ التِّلميذة السريّة بشكلٍ رسميٍّ وبتوكيلٍ مِنْ مربيّة الصَّفِ!!

دخَلَتْ المُعَلِّمة الصَّفَ وفي يدِها ورقةً عليها أسماءُ البناتِ “المشاغبات” وإذ بالمعلمة تناديني!!!

أَحسَسْتُ كأنّما “قلبي يهبط” من الرَّهبَةِ، وقد بدأتِ المعلمةُ تَكِيلُ لي من التَّنبيهات أمامَ الجميع ما لم أَكُنْ يوماً مستعدة لسماعه على انفراد!!!

فأنا لم أَعتَد على سماعِ ملاحظةٍ واحدةٍ وأنا المعروفة بِجِدِّي واجتهادِي وسيرتي الحَسَنَة في المدرسة…

وعَلِمَ الجميع أَنَّنِي لستُ تلكَ التِّلميذة السِّريّة ذات المهمّة الرسميّة!!!

انهَمَرَتْ دموعي صامتةً مُعلِنَةً النَّدَمَ على أخذِ دورٍ لا يَحِقُّ لي القيامُ به…

مضى النَّهار بطيئاً عَلَيَّ، حتّى عُدتُ إلى البيتِ وأخبرتُ أخي الأكبر الذي كان صديق طفولتي -ومن ثمَّ صديقَ عمري- عَمَّا حصلََ لي في المدرسة، فضحكَ وقال لي “أخذتِ جزاءَكِ”…

تَسَارَعَتْ نَبَضَاتُ النَّدَمِ في قلبي، وعاهدتُ نفسي أنَّنِي لَنْ أكَرِّرَ هذا الفعلَ مَرَّةً ثانيةً ولن أتقمّصَ أيّ دورٍ ليسَ لي ولَو أعجبني…

في صباحِ اليومِ التّالي وأنا في طريقي للمدرسةِ، إلتقيتُ بمعلمةِ الصَّفِ التي وبَّخَتني بالأمس، فإذ بها تضعُ يدَها على رأسي وتُرَبِّتُ على كتفي وتسألني: “ما الذي دفعكِ لِفِعلِ ذلكَ يا وداد؟!”

فقلتُ لها: “إنَّني أحِبُّ أن أشارِكَ في كلِّ أمرٍ يوصلُ للإصلاحِ وأنا أعرفُ أنَّ ما يَصِلُ لكِ مِنْ أخبارٍ عن بناتِ الصَّفِّ يَجعلُكِ تُوَجِّهِينَهُنَّ لِصَالِحِهِنَّ…

نَظَرَتِ المعلمةُ في عَيْنَيَّ نظرةَ تأَمُلٍ وعُمقٍ، وقالت لي: “مِنَ الآنِ فصاعداً أنتِ التّلميذةُ السِّريّة ولَنْ أستَبدِلَكِ بفتاةٍ أُخرَى..

طارتْ الفرحةُ مِنْ قلبي لِعُيُوني، ولم استطِعْ أن أخفيَ ابتسامتي بإعطائي تلك المهمّة، وأحسَسْتُ كأنّها المكافأة التي أَتَتنِي بسببِ توبَتي وقَرارِي بأن لا آخذَ دوراً ليسَ لي!!!

وإنَّنِي حينَ أَروِي تلكَ القصّة مِنْ طفولتي أستخلِصْ منها عدّةَ أمورٍ تربويّة:

-الأول: أنَّ الغاية لا تبرِّرُ الوسيلة.
-الثاني: لا ينبغي الإصرار على فعلٍ قد عَلِمنا خطأه.
الثالث: أنَّه لا بُدَّ من مكافأةٍ للتَّوبَة والتَّراجع عن الفعل الخاطِئ، وقد تأتي تلك المكافأة سريعاً وقد تتأخَّر…

فلا تَتَراجَعُوا عن توبتِكم مهما حصل…

وداد_عسّاف

مديرة تحرير سامريّات

أضف تعليق